ساري عرابي يكتب: “الدحيح” في سياقه.. سياسات شراء “المؤثّرين” لخدمة التطبيع!
ساري عرابي يكتب: “الدحيح” في سياقه.. سياسات شراء “المؤثّرين” لخدمة التطبيع!
اضطرت أكاديمية “نيو ميديا” الإماراتية، إلى إصدار بيان تعلن فيه انتهاء شراكتها مع “ناس ديلي”، وقد عطّلت موقعها الالكتروني لفترة مؤقتة حذفت فيها كلّ ما كان يشير إلى تلك الشراكة، وذلك بعد حملة مقاطعة برنامج “الدحيح”، الشهير بتبسيط العلوم، إثْر إعلانه انتقاله إلى المنصّة الإماراتية.
تبدأ القصّة من “ناس ديلي”، أو “نصير ياسين”، الشاب “الفلسطيني- الإسرائيلي” كما يُعرّف نفسه، والذي نشط في مجال الإعلام الجديد لإعادة تقديم صورة “إسرائيل”، بما يخدمها، وبما يطمس حقائق الصراع معها، في سياق مشوار محفوف بالشبهات، يُنبّه إلى من يُصدّره ويدعمه ويوظّفه، حتى عقد شراكته مع المؤسسة الإماراتية المذكورة، لتدريب 80 صانع محتوى عربيّ، وبما يتضمّن السيطرة على قنواتهم في موقع يوتيوب.
كانت علاقات نصير ياسين بالإمارات قد بدأت قبل هذه الشراكة، في حركة متوقّعة، بالنظر إلى سعي الإمارات للهيمنة على “المؤثّرين” في مجال الإعلام الجديد، وبالنظر إلى الرابط التطبيعي بين الطرفين، حيث “إسرائيل” الناظم الأساس بينهما. وهنا تنبغي ملاحظة أنّ الأكاديمية الإماراتية المذكورة، تأسّست بدورها مع الإعلان عن العلاقات التطبيعية بين الإمارات و”إسرائيل”، وهذا السياق الشامل، لا يترك شيئا للتخمين أو حسن الظنّ، أو توهّم الصدفة، في فهم السياسات الإماراتية إزاء “إسرائيل”، واهتمامها بشراء “المؤثّرين” في الإعلام الجديد، أو في مواقع التواصل الاجتماعي.
حظي برنامج “الدحيح”، والذي كان يُقدّم في منصة AJ+ التابعة لشبكة الجزيرة، بجماهيرية عالية، من شأنها أن توفّر جمهورا ضخما للأكاديمية الإماراتية، بعد انتقاله إليها، وبما أن “الدحيح” غير معروف بمواقف سياسية واضحة، ومختصّ بتبسيط العلوم الطبيعية، فإنّه لن يثير الشبهة، كما في حالة “ناس ديلي”، ممّا سيفيد الأكاديمية باستقطاب جمهوره، وهذا الذي تريده في الأساس، وإن كان الأمر قد ينتقل لاحقا لإعادة توظيف صنّاع البرنامج لصالح تسويق السياسات الإماراتية.
حملة المقاطعة ضمّت أوساطا من جمهور “الدحيح”؛ تأبى عليه السقوط في مستنقع خدمة السياسات الإماراتية التطبيعية، ولو على نحو غير مباشر، وإذا كان البعض قد يُتهم بتصفية الحساب مع “الدحيح”، لخلافات أيديولوجية حول توظيف العلم في قضايا فكرية ودينية، إلا أن اتساع حملة المقاطعة تتجاوز هذا الجانب، ممّا ينمّ أولا عن الأثر المباشر للأحداث الأخيرة في فلسطين، وثانيا عن ارتفاع الوعي السياسي، وعودة الإيجابية للجماهير العربية بفضل هذه المواجهة، الأمر الذي دفع الأكاديمية الإمارتية لتلك التراجعات المذكورة في مطلع هذه المقالة، على خلاف العادة الإماراتية التي تتسم بالعناد والاستفزاز في إظهار الحميمية للإسرائيليين، والعدوانية تجاه القضية الفلسطينية وأهلها. وقد يشي ذلك التراجع أيضا برغبتها في الاحتفاظ بـ”الدحيح”، وحمايته من حملة المقاطعة، لتحقّق هدفها الأساس باستقطاب جمهوره.
يُلاحَظ في السنوات الأخيرة، وحتى من قَبْل تظهير التطبيع إلى العلن، الاهتمام الإماراتي المحموم بالإعلام الجديد و”المؤثّرين” فيه. فقد باتت الإمارات محلّ الإقامة للكثير من صناع المحتوى العرب، ولا سيما اليوتيوبرز، بعد شهرتهم، ولا يمكن أن نتوقع أن انتقال كثير منهم للإقامة في الإمارات، إلا في سياق تسهيلات اقتصادية، تجعل إقامتهم في ذلك البلد ممكنة ماليّا، وذلك بالإضافة إلى أشكال أخرى من الدعم المعلن، كالرحلات المجانية على خطوطها الجويّة، والدعايات المجزية التي تتعاقد عليها شركات إماراتية مع هؤلاء. وقد تفيد الإشارة هنا، إلى قانون “رخصة المؤثّرين” الذي أصدرته الإمارات في العام 2018، والذي يلزم كلّ “مؤثّر”مواطن أو مقيم أو سائح، بأخذ رخصة لمزاولة نشاطه في الإعلام الجديد، أو بالتعاقد مع إحدى الوكالات المرخّصة إماراتيّا.
الإهتمام الإماراتي المحموم بالإعلام الجديد و”المؤثّرين” فيه. فقد باتت الإمارات محلّ الإقامة للكثير من صناع المحتوى العرب، ولا سيما اليوتيوبرز، بعد شهرتهم، ولا يمكن أن نتوقع أن انتقال كثير منهم للإقامة في الإمارات، إلا في سياق تسهيلات اقتصادية
لا يقتصر هذا النوع من النشاط على “مؤثّري” الإعلام الجديد، بل على الفنانين الذين تمنحهم الإمارات الجنسية، أو الإقامة الذهبية، بعدما باتت “قِبلة” بعضهم، خاصة من السوريين الذين ألجأهم الظرف السوري، بما في ذلك أنصار النظام، إلى الإمارات، في ظلّ أزمة الدراما السورية، التي تعاني من شحّ الإنتاج المحلّي وضعفه.
ويُذكر هنا الفنان السوري ياسر العظمة، صاحب سلسلة “مرايا” الشهيرة، الذي وجد نفسه يشكر الإمارات وحاكم دبيّ على منحه الجنسية، في حين كان سفير الإمارات يأخذ البركة من حاخام شاس شالوم كوهين، ويتمنّى فيه لـ”إسرائيل” أن تعود قوية، بينما كان وزير خارجية الإمارات، عبد الله بن زايد، يحرّض في اجتماع ضمّه إلى “اللجنة اليهودية الأمريكية” على حماس والمقاومة الفلسطينية، ويودّع بكلمات مغرقة في الحميمية؛ نظيره الصهيوني غابي اشكنازي بعدما ترك منصبه وزيرا للخارجية!
قد لا يكون من باب الصدفة أن الفنان ياسر العظمة، المعروف بنقده الاجتماعي والسياسي في سلسلته “مرايا”، قد وجد أخيرا من ينتج له مسلسله “السنونو”، بعد فشل سنوات في البحث عن منتج، وبعدما اتّجه يائسا إلى يوتيوب لتقديم برنامج خاصّ به، فمن المحتمل والحالة هذه أن يكون المنتج إماراتيّا. هذا الربط إن صحَّ، يعطي مؤشّرا إضافيّا على الهوس الإماراتي في الهيمنة على صناع المحتوى العرب، و”المؤثّرين” فيه.
ما سبق مجرّد أمثلة على سعي إماراتي مبكّر للهيمنة على “مؤثّري” الإعلام الجديد، ومن المؤكّد أنّها باتت أكثر اهتماما بذلك، بعد هزيمة “إسرائيل” ودعاية التطبيع، إعلاميّا ودعائيّا، أثناء معركة سيف القدس، وتصّدر أنصار القضية الفلسطينية الإعلام الجديد أثناء هذه المعركة، مما يجعل استقطاب جمهور “الدحيح” مكسبا لأيّ مؤسّسة إماراتية تعمل في إطار الهيمنة على “المؤثّرين” ومحاولة كسب الرأي العام من خلالهم.
لعلّ “الدحيح” يقدّم محتوى علميّا مشوّقا محبّبا إلى الناس، والمثقفين غير المختصين، ممن يجذبهم سحر الخطاب العلمي التبسيطي، ومن الوارد أنّه لن يتورّط في خطاب تطبيعيّ مباشر، بيد أنّ السياسة التي “لا يفهم فيها” (كما قال في بيانه التوضيحي التبريري للالتحاق بمؤسّسة إماراتية بالتاريخ المذكور أعلاه)، قد تجرّه إلى خدمة السياسات الإماراتية، لا سيما وأنّه، بجماهيريته الكبيرة وقاعدة متابعيه الواسعة، قادر على أن ينتج برنامجه ذاتيّا، وإن كان بإمكانات مادية أقلّ مما توفّره المنصات الممولة من الدول النفطيّة، ومن ثم بطاقم أصغر وأكثر تواضعا.
كما أنّ ياسر العظمة وقد بلغ هذا العمر، وبهذا التاريخ العريض، غير مضطر للجنسية الإماراتية، وفي حين أن بواطن الأمور قد تخفي أعذار الناس عن الناس، فإنّ السياسة الإماراتية تراهن على تضخّم الطموح الشخصي لدى هؤلاء “المؤثّرين”، والذين إن كان بعضهم يقدّم محتوى مفيدا، فإن كثيرا منهم اشتهر بمحتواه التافه، ونشر التفاهة لازم لتحطيم القيم العليا التي تتناقض وتحالف الإمارات مع “إسرائيل”، وعدوانيتها تجاه الفاعلية الشعبية والجماهيرية.
النشاط الإماراتي في احتواء “المؤثّرين” والمشاهير، بما في ذلك المشاهير في حقول الدين والثقافة، قد يبعث على الإعجاب من حيث نشاط هذه الدولة، ومزاحمتها في كل المجالات، وسعيها للهيمنة على المجال العامّ العربي بكلّ أبعاده، إلا أنه يخفي غرورا وإسقاطا ذاتيّا. أمّا الغرور فبظنّها القدرة على طمس الحقيقة، إذ التدافع سنّة ربّانية تحكم الاجتماع الإنساني، وأمّا الإسقاط الذاتي فبظنّها إمكان سلخ البشر كلّهم من الالتزام بقيم عليا تتجاوز الأنا والطموحات الرخيصة.
النشاط الإماراتي في احتواء “المؤثّرين” والمشاهير، بما في ذلك المشاهير في حقول الدين والثقافة، قد يبعث على الإعجاب من حيث نشاط هذه الدولة، ومزاحمتها في كل المجالات، وسعيها للهيمنة على المجال العامّ العربي بكلّ أبعاده، إلا أنه يخفي غرورا وإسقاطا ذاتيّا. أمّا الغرور فبظنّها القدرة على طمس الحقيقة، إذ التدافع سنّة ربّانية تحكم الاجتماع الإنساني، وأمّا الإسقاط الذاتي فبظنّها إمكان سلخ البشر كلّهم من الالتزام بقيم عليا تتجاوز الأنا والطموحات الرخيصة.