د. عبدالله العمادي يكتب: حماس وهي تقلب الموازين
الاستفزاز الصهيوني يزداد يوماً بعد يوم، والتغول والإجرام مستمران على شعب أعزل، ولربما ظهور عدد من المشاهد السياسية بالمنطقة، كهرولة البعض نحو التطبيع مع دولة الاحتلال، أوحت لهم أن الشعب الأعزل في غالبية مناطق فلسطين المحتلة، لم يعد له حيلة ليحتال أو يقف موقفاً يمنع العدو من التمادي، وهذا ما كان واضحاً مع بدايات التحرش بأهالي حي الشيخ جراح، والقصة المعروفة للجميع وتطوراتها. ولكن حدث ما لم يكن بالحسبان، لا عند الصهاينة، ولا عند بعض العربان.
ظن المقدسيون بعد تمادي العدو ووحشيته، أنهم وحدهم في الميدان، واعتقدوا أن غزة مشغولة بنفسها، وهي تواصل الصمود ضد حصار ظالم جائر أمام مرأى ومسمع العالم كله، فيما بقية الشعب الفلسطيني متناثر ومنقسم هنا وهناك، هذا كله، دفع بالصهاينة وقطعان المستوطنين إلى مزيد من الحماقات، فلا رادع أمامهم يمكن أن يردعهم، وبالتالي لم لا يستمر مسلسل الاستفزاز وارتكاب الحماقة تلو الأخرى؟.
في غمرة ذلك الشعور عند المقدسيين، واقترابهم من اليأس من أي دعم أو مساندة عربية مأمولة، تدخل غزة العزة على الخط، لتبشر المقدسيين وتعلن لهم وللعالم كله أنهم، رغم ظروفهم، موجودون وعلى أتم الاستعداد لمزيد تضحيات، وأن الوقت حان لتغيير قواعد اللعبة أو قواعد الاشتباك، وأنها – أي حماس – هي من ستفرض الآن تلك القواعد، من بعد أن بلغ السيل الزبى، أو هكذا بدا الوضع في عموم فلسطين خلال الأسابيع الماضية.
معركة سيف القدس
تسخن الأجواء بدخول غزة في رفع الظلم الذي وقع على المقدسيين، وتبدأ كتائب القسام في ارسال رسائلها إلى الصهاينة، الواحدة بعد الأخرى، والمطالبة برفع ظلمهم عن المدينة المقدسة وأهلها سلمياً قبل اللجوء إلى حلول أخرى، قد يندم الصهاينة كثيراً في تجاهلها، ووقع التجاهل فعلاً، ورأى الصهاينة جدية رسائل غزة عبر صواريخ أضاءت سماء مدنهم، القريبة من القطاع والبعيدة، بل ودخلت المعركة صواريخ جديدة استراتيجية، أجبرت على اغلاق مطار بن غوريون الدولي، مع ما لذلك من خسائر اقتصادية كبيرة، وأجبرت أكثر من 70% من سكان دولة الاحتلال إلى العيش في الملاجئ، ما يعني تعطل الحياة الاجتماعية والاقتصادية هناك، وتأثير ذلك على الحالة المعنوية للسكان ومنهم العسكريون أيضاً.
الجديد في معركة سيف القدس أن غزة دخلتها بثقة، كما لو تبدو أنها قد استشرفت هذه الحرب، وأنها قادمة لا محالة، وبالتالي هذا الاستشراف دفعهم لإعداد العدد والعُدة اللازمة، لحرب قد تكون فاصلة ومسببة لتغييرات معينة في المنطقة.
بدأت الحرب ومعها حروب أخرى، إعلامية وسياسية وشعبية على مستوى عالمي مشهود، المواجهات العسكرية لم تكن بحجم توقعات وتقديرات العدو، إذ ساد الاعتقاد القديم بأن عدة ضربات جوية للقطاع يمكنها أن تحسم الأمر، وتعود الأمور إلى هدوئها المعتاد، لكن اختلف الوضع، فما إن يبدأ العدو بغارة، إلا وتبعتها زخات كثيفة من الصواريخ تجاه مناطق عديدة، عجزت عن صدها قبة العدو الحديدية، بل وأصابت صواريخ القسام مواقع استراتيجية لم تكن بالحسبان، كلفت العدو مئات الملايين حتى الآن.
إن عـدتم عـدنا
غارة جوية صهيونية واحدة على غزة، تدفع بزخات ومئات الصواريخ القسامية تجاه مدن العدو، ولسان حال القطاع يقول: إن عدتم عدنا، هذا مؤشر مهم يدل على تحول كبير ميدانياً، صار العدو يخشى جيش غزة أكثر من كل الجيوش العربية، بعد أن تحول هذا الجيش إلى جيش نظامي وصاحب عقيدة قتالية واضحة، وبناء تنظيمي متماسك، وتأثير واضح على أرض الواقع، أضف إلى ذلك ميزة أخرى بالغة الأهمية، هي القدرة على التصنيع العسكري والقدرة على المناورة وتحريك العدد والعتاد سريعاً من نقطة إلى أخرى.
وفوق هذا كله، امتلكت حماس القدرة على فرض قرارها على العدو، فهي تختار الوقت والمكان لبدء الهجوم، وما على الطرف الآخر إلا الاستجابة، وهذا ما دفع بكثير من الإسرائيليين للقول بأن محمد ضيف هو من يتحكم بملايين الإسرائيليين، متى الدخول إلى الملاجئ ومتى الخروج منها لأمور إنسانية، في تطور لافت ومشهود.
من المشاهد الملحوظة في الأحداث الجارية الآن في غزة، أن أهالي القطاع ومجاهديها لا يسألون الناس إلحافاً خارج فلسطين، سلاحاً أو مالاً أو طعاماً أو حتى دواء، بل الدعاء بظهر الغيب أن يثبت الله أقدامهم، ويزلزل الأرض من تحت أقدام عدوهم، وبالدعم الإعلامي بكافة أشكاله.
ولعل الحرب الإعلامية بدأت نتائجها تظهر سريعاً حتى ضاق الأمر بالعدو أن يستنهض كل من معه ويستغل أوراقه، للوقوف أمام مد إعلامي عربي واسلامي ودولي يستنكر أفعال جيش الاحتلال، حتى تكونت صورة ذهنية جديدة غاية في البشاعة لدولة الاحتلال، وإن صناعة الصور الذهنية لتأخذ من المال والوقت الشيء الكثير، لكن بفضل الله، ثم حماقة العدو ومن يدافع عنه من صهاينة العالم، ومنهم صهاينة عرب، أن نشأت صورة ذهنية له، سيحتاج سنوات وسنوات لمحوها من أذهان العالم.
أين المطبعـون؟
مشهد آخر وليس أخيراً هو موقف المطبعين العرب من الأحداث، وكأنما لسان حالهم بعد كل الذي يجري الآن يقول: وددنا لو لم نهرول نحو التطبيع، وتريثنا بعض الشيء، ها هي دولة العدو تواجه مشكلات وانقسامات ودعوات ترجو الحكومة التفاهم مع حماس وليس غيرها لوقف البؤس الذي انتشر بينهم في أيام معدودات. بل إن دعوات أخرى بدأت تتصاعد وتدعو للهجرة العكسية، باعتبار فقدان الأمن والأمان، وهما سبب هجرة اليهود إلى فلسطين فيما مضى من وقت، ألا وإن غيابهما الآن صار واقعاً، فلا شيء يدعو للبقاء، وخاصة أن غالبية المهاجرين اليهود أصحاب جنسيات مزدوجة، إذ قليل ما تجد إسرائيليا لا يحمل جنسية أخرى، لأن عنصري الأمان والثقة غائبان، رغم كل دعايات حكومة الاحتلال، فما حاجة المطبعين إلى دولة هذا حالها في أول مواجهة واختبار حقيقي لها؟.
إن مثل هذا الوضع لم يكن ليحدث لولا ما يحدث الآن على الأرض من ظلم واضح بيّن، وضع لم يسع إليه الفلسطينيون بهذه السرعة، على عكس العدو ولحاجات في نفسه، وهذا ما عجّل الله بظهورها وكشفها لتتحقق الآية الكريمة تارة أخرى، بعد أن كانت الأولى في معركة بدر الفاصلة حين قال سبحانه (إذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمراً كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيا عن بينة وإن الله لسميع عليم).
إنه الله سبحانه يدير هذه المعركة، ليكشف حقيقة العدو، ويكشف المنافقين من الداخل والخارج، ويكشف حقيقة المجاهدين والمرابطين. ها هم أولاء وقد انكشفوا جميعاً، عدو متغطرس لا يفقه قوانين وسنن الكون، ومنافقون منتفعون لا يتعلمون دروس التاريخ، ومجاهدون عرفوا المعنى العميق للتوكل على الله، والجهاد في سبيله لا غيره، وفي الأجواء حولهم غربان تنعق وأصوات باطلة تدعوهم ليل نهار (إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل).
نعم، قالها أهل غزة: حسبنا الله ونعم الوكيل، وإن وقف العالم كله ضدنا، فالله أكبر وأعظم، ولن يخذلنا أبداً.
فاللهم ثبت أقدامهم واربط على قلوبهم، وزلزل الأرض من تحت أقدام الصهاينة الغاصبين، ومن معهم من الحاقدين والمنافقين، إنك سميع عليم مجيب الدعوات، يا رب العالمين.
نقلا عن الشرق القطرية