الميراثُ الملعون
يكتبها ويرد عليها: عادل موسى
ليس كلُ ما يقعُ تحت يدِك يصبحُ من حقِك.. ولن يكونَ الشئُ ملكًا لك لمجرد أنه بحوزتِك.
وليسَ أثقلُ على الإنسانِ من حملِ الوزرِ وهو يعلمُ جيدًا عاقبَتَه.. وليسَ أقسى من تعاقبِ الأيامِ وأنت تدفعُ ثمنَ الذنبِ من راحةِ ضميرِك وهدوءِ نفسك وسكينةِ قلبك.. فتصبحُ الدنيا ضيقةً عليك رغم اتساعها على الجميع.
شيئان فعلتُهما في حياتي أيامَ الشبابِ فأضاعا عليّ ما بَقِيَ من عمري.. شيئان اقترفتْهُما يداي منذ أكثر من ثلاثين عامًا يبكي منهما القلبُ قبل العين..
نشأت في أسرة ميسورة الحال لحد بعيد.. أرض زراعية بمساحة كبيرة وأملاك متنوعة.. وأنا أخ أكبر لوَلدَين وبنت.. أتممتُ تعليمي حتى دبلوم الصنائع وتوليتُ مع والدي رعايةَ الأرضِ والأملاك.. وحصلتْ شقيقتي أيضا على الدبلوم.. أما شقيقاي الصغيران فحصل أحدهما على بكالوريوس الهندسة واستقر في القاهرة.. وحصل الأخير على بكالوريوس التربية وعمل مدرسا واستقر في القاهرة أيضا.
لم أترك والدي يوما واحدا.. كنت طَوْعَ أمرِه ومِلكَ يمينه.. يأمرني فأطيع وينهاني فأنتهي.. وأباشرُ جميعَ الأعمالِ بنفسي لا أَكَلُّ ولا أَمَلُّ.. ومرت الأيام والأعوام.. تزوجت وأنجبت وتزوج كل إخوتي.. شقيقتي غادرتنا إلى بيت زوجها.. وشقيقاي استقرا في القاهرة بلا رغبة في العودة للقرية إلا في إجازتي العيدين.
كان والدي يغدق علينا جميعا من ماله الحلال.. حتى شقيقتي التي لها عائل يتكفلُ بها كان يراعيها كأنها في بيته.. وكانت عادته أن يدخرَ ماله وعائد المحاصيل والتجارة في المنزل.. لا يعرف معنى أن يكون له حساب في بنك أو دفتر في “بوستة”.. وكلما تجمع معه مبلغ كبير اشترى به أرضا زراعية.. وهكذا كانت حياتنا.. لكنها لم تستمر على هذا الحال.
ولأن الحياة الهانئة لاتدوم.. ولأن رونقها الجميل من الممكن أن يختفي فجأة.. توفيت والدتي بلا إنذارٍ من مرضٍ أو علة..
وتبدلت الحياةُ تماما.. اختفى منها البريق.. وصار كلُ شئ جامدا بلا روح.. وبعد أعوام فاتحني والدي برغبته في الزواج.. لا أدري لماذا شعرتُ وقتها بالقلق والخطر معا.. قفز في ذهني فجأة خيالُ زوجةٍ جديدة ستشاركنا في الميراث.. وربما أنجبت ولدا أو أولادا يرثون مثلنا تماما.. نتعب ونشقى ليأتي غيرنا ويحملونه جاهزا بلا جهد.
لم يكف والدي عن الحديث عن رغبته في الزواج.. كنت أرده مرة بحجةالوفاء لأمي رحمها الله.. ومرة بحجة أن الزواج من فتاة صغيرة أو امرأة لاتعرف طباعه سيتعبه في هذه السن التي يجب أن يكون فيها بلا شئ ينغص عليه حياته.. وكلما ذكر لي امرأة ليتزوجها كنت أعدد فيها الأخطاء وأحصر فيها العيوب وأدعو زوجتي لذمّها وأهلَها حتى أغلقنا عليه باب الزواج.. وفي الوقت نفسه ازدادت عنايتنا به ومراعاتنا له وكانت زوجتى وأولادي تحت قدميه لا يطلب شيئا إلا ويحضر في وقته بلاتأخير أو تأفف.
هذا هو الشئ الأول الذي أعترف به.. لقد منعت والدي من الزواج وهو يريده.. وحرمته من متعةٍ حلالٍ وأنا قادرٌ على تسهيلها له.. لا لشئ إلا لخوفي على الميراث ورغبتي في تحصيل أكبر قدر منه.
الشئ الثاني الذي أعترف به هو طامتي الكبرى ومعضلتي التي لا حل لها وحصاري الذي لا فكاك منه.. وبالتحديد كان يوم وفاته.. فبعد أن لقنته الشهادة وأنا في حجرته وبعد أن صعدت روحه لبارئها أفقت من استغراقي في هذا المشهد على صورة واحدة.. المال الذي يدخره والدي في حجرته.
تركت جسد والدي على سريره وتحركت رغما عني كأنني المسحور ناحية الصندوق الذي يضع فيه المال.. كان مفتوحا كما اعتاد أن يتركه فلا أحد يدخل غرفته.. وكذلك لا يجرؤ أحد على فتح الصندوق حتى أنا.. وعندما رفعت غطاء الصندوق وجدت كثيرا من “رُزَم” النقود.. استجمعت أطراف جلبابي ولم أدر إلا وأنا أضع النقود فيه ولم أترك إلا قدرا قليلا ربما يساوي ربع ما كان فقد جال بخاطري أن إخوتي لن يصدقوا أن حجرة والدي بلا مال.
انتهى كل شئ.. الجنازة والعزاء واجتماع الأقارب والجيران.. ولم يعد سواي وإخوتي فقلت لهم لن تغادروا إلى القاهرة قبل أن نفتح غرفة والدي ونحصر ما فيها من أوراق وأموال.. وهذا ما حدث بالفعل.. وصدق إخوتي أن هذه كل الأموال.. لكن الحقيقة أنني أخذت حوالي مائة ألف جنيه ولم أترك إلا مايقرب من ثلاثين ألفا.
مرت الأعوام على فعلتي التي أفقت منهاأسرع مما كنت أتصور فلم يمض أكثر من يومين وبدأ ضميري يؤنبني على ما فعلت.. وجال بخاطري ما فعلته بوالدي من منعه من الزواج ثم ما أخذته من مال الميراث.. لكن الشيطان حدثني بأن ما أخذته كان من حقي نظير عدم إكمال تعليمي وملازمتي لوالدي وعملي معه..لكن ضميري لم يهدأ أبدا.
أشعر أن الجميع يعيشون في سعادة وراحة بال إلا أنا.. الكل يهنأ بحياته حتى لو كانت بسيطة وأنا أعيش أسير الإحساس بالذنب الذي لم أستطع البوح به أو الحديث عنه إلا لزوجتي التي لامتني أولا لكنها كفت عن ذلك سريعا وكأن الشيطان حدثها بما حدثني به فأظهرنا اقتناعنا بذلك لتمضي الحياة.. ولا أدري ماذا أفعل لأرتاح ولو لأيام.. قبل أن توافيني المنية.
أ.ح. ع